شعور هجين لا نقدر على وصفه... فمرة ترفعنا أمواج الثناء و الشكر و مرة أخرى تلاطمنا رياح الحزن و نسائم
الاكتئاب فلا ندري على أي ارض
نسير و لا ندري أي شعور يسكننا ... تداخلت المشاعر داخلنا واهتزت ضلوعنا نشوة و بؤسا في مزيج لم نقدر على وصفه .. فعلقنا الحكم و أدركنا الطمأنينة كما فعل فلاسفة مدرسة الشك الريبي... كان هذا
كله و ما يزيد تفاعلا مع
مقال مدار الزيارة و النيارة التي
قمنا بها إلى غرفة الأطفال المولدين خارج إطار الزواج بمستشفى فرحات حشاد
... و التي نشرناه في العدد
قبل السابق تحت عنوان :" إذا
الموؤودة سئلت بأي ذنب قتلت" ...
حرّك نص
الزيارة المنشور في مياه المشاعر
الراكدة في وجدان الانسان
التونسي رجلا كان أو امرأة و جعله
ينتبه إلى وجود جيل
كامل من الأطفال بدون
نسب و لا هوية : فيلق من الأطفال كتب
عليهم القدر الأحمق ان يعيشوا بين
زانين الغرف اما
داخل المستشفيات او مراكز ايواء
الطفولة الجانحة او فاقدة السند بعد
ان تركهم
آباؤهم في لحظة
تبرؤ موجعة ...
فكثيرة تلك التفاعلات التي عرضت على الصحيفة المساعدات
المالية و المادية قصد إيصالها إلى هؤلاء المحرومين من الحنان... و كم من
بادرة بعثت لإنقاضهم ... و كم من
فكرة راودت القراء من اجلهم... و كما دمعة
نزلت عليهم ... و كم شعورا فيّاضا هاج من
اجل عيونهم... كانت الردود من كل حدب
و صوب من
المواطنين العاديين و من هياكل المجتمع المدني و حتى من المسؤولين
في وزارة الصحة .. تفاعلات أكدت ان
التونسي حنّان منّان مهما قست عليه الأزمان و تناوبته الرزايا و ضم الوجع بين الحنايا
يظل رؤوفا رحيما
على أخيه التونسي و خاصة الأطفال الصغار ...
سكنت البسمة ثغرنا و غازلنا شعور بالرضاء
إزاء تلك المبادرات و تعاظم شعور الفرح الذي انتابنا لما علمنا أولا انه
تقرر توسيع الفضاء المخصص للأطفال المولودين خارج إطار الزواج و تمكينهم من مقومات
العيش الكريم فيه و النمو السليم...
توسيع الفضاء بما يعنيه
من تمكينهم من غرفة أوسع و
اكبر من ذلك الجحر الذي كانوا فيه و جعله مناسبا للأطفال من حيث الألوان و من حيث
الاخراج الفني الملائم لعيون تفتح لأول
مرة على العالم الواقعي
... و لما علمنا ثانيا انه تم نقل أولئك الأطفال إلى مراكز العناية بالطفولة من
سوسة إلى تونس قصد الاهتمام بهم...فضلا عن الزيارة التي أداها وزير الصحة إلى قسم
النساء و التوليد بمستشفى فرحات حشاد
في
خضمّ هذا الجو التفاعلي
الايجابي أطلّ علينا الوجع
من ثنايا أخرى م خلال
مبادرة بعض النسوة إلى الاتصال
بنا ... جعلنا نقف
متسمرين بعد ان أدمت
كلماتهن قلوبنا و جعلتنا
نجدد تجربة البكاء مرة اخرى
تعاطفا مع نساء
حملن هم الزمان
على ظهورهن و ظلت الحياة
عندهن بلا معنى
رغم المكابرة و الاجتهاد في إخفاء الألم و الأوجاع
داخلهن و جمح كباح المرارة في قلوبهن و
مع ذلك قبلن بالحرمان الذي كتب عليهن
من باب " عسى ان تكرهوا شيئا وهو خير لكم "
نساء متصلات يمثلن هموم كل النساء من نفس الطينة و اللاتي يتقاسمن
نفس المواجع و نفس
الكدر ... فهن كن و
لا زلن مدار همس أفراد المجتمع الذي يرفع تجاههن
سقف الشفقة عليهن فهن بلا أطفال
بعد ان عقمت أرحامهن مما
يجعلهن يعانين من نقص كبير يعتري كيانهن بعد وصفهن بكل الصفات
القاحلة التي تجردهن من العطاء، إذ يقتصر وجودهن المثمر في هذا العالم على إنجابهن
للأطفال بالدرجة الأولى. ونستحضر بعض هذه المفردات على غرار العاقر، الأرض البور،
بلا ثمار .. وهلم جر ...
ظللن يعانين نفسيا وجسديا من
حرمان القدر لهن من الإنجاب، وبعضهن رفضن التعايش مع فكرة غياب أطفال يملؤون عليهن
الجو شغبا وطفولة، وبعضهن صرن يجدن ملاذهن في الحدائق حيث يلعب الأطفال، وأخريات
مضين في حياتهن قدما رغم الحزن الذي يلفهن، وفي القلب غصة وجرح لن يندمل، تتأجج
ناره كلما صادفن رضيعا باسم الثغر، أو طفلة مشاكسة تلهو. فالأحلام الوردية التي
رسمنها تحطمت على جدران واقع مرير، والأسماء التي اخترنها لأطفالهن المستقبليين،
والغرف التي جهزت لهم، تحولت إلى كابوس مزعج حين علمن أنهن «مصابات» بالعقم، فلن
تأتي «ايمان» لتحضنهن وتدللهن، ولن يأتي «ياسين» ليملأ الجو شغبا ومرحا طفوليا.
البعض منهن صار شعرها البياض
يغلب عليه، ورائحة العطر التي تنبعث من بين ثنايا ردائها الطويل، و اغلبهن يطللن
بوجه حزين حفرت عليه المعاناة أخاديد بشتى الأشكال، وجه كان شاهدا على كم عانى هذا الجسد وروحه،
ومحاجر اليأس، لازالت تحتفظ بتاريخ طويل من البكاء جراء الحرمان من الأمومة. رغم
خوضهن غمار عمليات جراحية على مستوى أرحامهن، ولجوئهن إلى جانب الطب، إلى العرافين
والمشعوذين، وتناولن شتى أنواع السموم من الأعشاب والتعويذات لم تفلح معهن في أن
تنجبن ولو طفلا واحدا فقط يجنبهن مرارة كونهن نسوة لا تنجبن...
فهن يبكين دما كلما
لفتت أنظارهن امرأة حاملا ... و يبكين همّا حينما يسمعن صراخ الأطفال...و
يسرعن الخطى أمام رياض الأطفال و المدارس
... و يحبسن دمعتهن ليلا دون ان يجدن ونيسا يداعبهن ... و يحلمن ان يستيقظن ليلة ليرضعن
طفلا أو يحملنه بين حضنهن ... هن هكذا يتجرعن المرارة في اليوم بدل
المرة مرات.. و تلك مشيئة الله وما تشاؤون
لا ان يشاء الله ...
فالامومة غريزة من أقوى الغرائز لدى المرأة أوهى تظهر
لديها في الطفولة المبكرة حين تحتضن دميتها وتعتنى بها ، وتكبر معها هذه الغريزة
وتكون أقوى من غريزة الجنس فكثير من الفتيات يتزوجن فقط من أجل أن يصبحن أمهات
ودائماً لديهن حلم أن يكون لهن طفل أو طفلة يعتنين به . ولولا هذه الغريزة القوية
لعزفت معظم النساء عن الزواج والحمل والولادة . وغريزة الأمومة أقوى من الحب الأمومة
، لأن الغريزة لها جذور بيولوجية (جينية وهرومونية) ، والمرأة حين تخير بين
أمومتها وبين أي شيء آخر فإنها تختار الأمومة بلا تردد .
لما كانت الأمومة غريزة بمثل هذه القوة كان
الحرمان منها شديد القسوة على المرأة العقيم فهى تشعر أنها حرمت من أهم خصائصها
كامرأة ، ومهما حاولت أن تعوض هذا النقص فإنها في النهاية تشعر بفراغ هائل وتشعر
أن لا شيء يمكن أن يملأ هذا الفراغ بداخلها . ولذلك تظهر أعراض الاضطرابات النفسية
أو النفسية بكثرة حتى تجد لها مخرجاً . والمخرج يمكن ان يكون بتبني طفل تمنحه حب
الأمومة أو التسامي بغريزة الأمومة من خلال رعايته و
الاهتمام ....
فالمخرج هذا وعر
إداريا ورغم كون الفصل 9 من القانون عدد
27 لسنة 1958 والمؤرخ في 4 مارس 1958
المنظم لشروط التبني و
الكفالة لا يفرض شروطا
كبرى وعسيرة إلا ان الإدارة كانت سليطة في منع
الام العاقر من تبني او كفالة ابن
من الذين أتوا خارج إطار الزواج ...شروط مجحفة منها ان
تكون المرأة متزوجة و يشتغل احد الأبوين في الوظيفة العمومية و ان يكون لهما مسكن قار ملك لأحدهما وغير ها
من الشروط الأخرى ... فالمرأة العاقر المحرومة من الأمومة و التي
تشتغل في القطاع الخاص و التي
تعيش على وجه الكراء كأغلب التونسيين يعسر
عليها ان تداوي جراحها بطفل
ينفض عنها غبار الوحدة و يرجع
لها الأمل في الحياة .
ان
الأمر اليوم يحتاج فعلا ان
تكون عمليات الكفالة و التبني يسيرة أولا
من باب إفراج الهم عن كرب إمرة محرومة
و ثانيا خدمة لمصلحة الطفل المثلى
... فنشأته داخل أسرة امتن و أفضل
بكثير من نشأته في قرى الأطفال و مراكز الإيواء .. ففي تلك
الفضاءات حكايات كبرى من الخور ... نرويها بعد ان نرفع
نداء على عجل ... متى جروح
بعض نساء بلادي تندمل ؟
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire